﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَوَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُوَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
[ البقرة : 183 - 184 ] .
أيها الإخوة الفُضَلاء :
--------------
إن الصيام من أجلّ الطاعات وأعظمها وأشرفها ، وسبب ذلك يعود لأمرين :
"أحدهما : أن الصوت تركٌ وكفّ ، وهو في نفسه سرّ ليس فيه عمل يُشاهد ، وجميع أعمال الطاعات بمشهد من الخلق ومرأى ، والصوم لا يراه إلا الله ـ عز وجل ـ فإنه عملٌ في الباطن بالصبر المجرّد .
والثاني : أنه قهرٌ لعدوّ الله تعالى ، فإن وسيلة الشيطان ـ لعنه الله ـ الشهوات ، وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب ، فلما كان الصوم على الخصوص منعاً للشيطان وسداًّ لمسالكه وتضييقاً لمجاريه استحق التخصيص بالنسبة إلى الله عز وجل(الإحياء (1/274) .).
واعلموا أيها الإخوة أن للصيام فوائد عديدة دلّت عليها النصوص النبوية ، أجمع حديثٍ حواها وأحسنه أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ المتفق عليه ، وأخرجه البخاري في كتاب الصيام باب فضل الصوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"الصيام جُنّة، فلا يرفث ولا يجهل ، وإن امرؤٌ قاتله أو شاتمه فليقُل : إني صائم ، والذي نفسي بيده لَخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها".
وفيه أيضاً : "للصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى ربَّه فرح بصومه(البخاري (1894 - 1904) ، ومسلم (1151) .).
وقد أفاد هذا الحديث الشريف عدة فوائد :
1- أن الصيام جُنّة : والمراد جُنّة من النار أي وقاية وستر من النار كما أفادتها بعض زيادات الحديث فعند سعيد بن منصور "جُنّة من النار" ، وعند أحمد في مسنده بسند صحيح عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الصوم جُنّة يستجن بها العبد من النار"(مسند أحمد (3/396) .) ، وعند أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة : "جُنّة وحصن حصين من النار"(مسند أحمد (2/402) .) وعند أحمد والنسائي من حديث أبي عبيدة : "الصيام جُنّة ما لم يخرقها"(مسند أحمد (1/195) ، وسنن النسائي الكبرى (2542 – 2543) .). يعني بالكلام ونحو .
"فالجُنّة هي : ما يَستجِنّ بها العبد ، كالمجّنّ الذي يقيه عند القتال من الضرب ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [ البقرة : 183 ] . فإذا كان له جُنّة من المعاصي ، كان له في الآخرة جُنة من النار ، وإذا لم يكن له جنة في الدنيا من المعاصي ، لم يكن له جنة في الآخرة من النار"(جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (139) .).
2- إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك(الحديث على ظاهره في إثبات استطابة الروائح لله تعالى على وجه يليق بجلاله بلا تشبيه أو تمثيل أو تحريف ، قال الإمام ابن القيم رحمه الله : "ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك فمثّل النبي صلى الله عليه وسلم طيب هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم ، ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه ، فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين ، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوقين من ذلك ، كما أن ذاته ـ سبحانه وتعالى ـ لا تشبه ذوات خلقه ، وصفاته لا تشبه صفاتهم ، وأفعاله لا تشبه أفعالهم ، وهو سبحانه يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه والعمل الصالح فيرفعه ، وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا" [ الوابل الصيّب ص 47 ] .) : وهذه فضيلة سامية للصائمين فالخلوف المراد به تغيّر رائحة الفم بسبب الصيام ، وهذا لا يحبه كثير من الناس ويستقذرونه ومع ذلك فهو أطيب عند الله من ريح المسك الذي أو أزكى الروائح عند الناس.
3- قوله : "الصيام لي وأنا أجزي به" : والمراد أنه لا رياء فيه ، وإنما هو أمر قلبي بين الله تعالى والعبد بخلاف سائر الطاعات ، فالصائم لا تبدو عليه أمارات جازمة تحدّد صومه أو فطره ، ولهذا قد يكذب بعض ضعاف الإيمان ويدّ‘ون الصيامَ وهم مُفطرِون ، خشيةً وحياءً من الناس ولا يخشون الله تعالى وعقابه، وقد روى البيهقي في شُعب الإيمان حديثاً عن أبي هريرة مرفوعاً: "الصيام لا رياءَ فيه ، قال الله عز وجل : هو لي وأنا أجزي به"(شُعب الإيمان 3/300 (3593) .)، وهذا الحديث لو صح لكان قاطعاً للنزاع ، لكن إسناده ضعيف ، لأنه قد نُقل في معنى هذه الجملة نحو عشرة أقوال .
وقد يُراد بمعناه : أنّي أنفردُ بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، ويشهد لهذا رواية : "كل عمل ابن آدم يُضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله ـ قال الله ـ إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" أي أُجازي عليه جزاءً كثيراً من غير تعيين لمقداره ويؤيده قوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر : 10] ، والصابرون هم الصائمون في أكثر الأقوال(فتح الباري (4/130) .).
4- قوله : "للصائم فرحتان" : فالصيام مع وجود الجوع والعطش فيه ، عاقبته الفرح والسرور ، فرح في الدنيا وفرحٌ في الآخرة ، والأخير أجلّ وأعظم ، لأنه علامة الفوز والقبول والنجاح ، ويوم القيامة يوم فرح وحزن ، فيه يفرح المؤمنون ويحزن الكافرون ، وجوهٌ مُسفرة ووجوهٌ عليها غَبرةٌ .
ثالثاً : إن الصيام كفّارة للذنوب والخطايا ، ففي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مَن صامَ رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّمَ مِن ذنبه"(البخاري (1901) ، ومسلم (759) ). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهنَّ ما اجتُنِبَت الكبائر"(مسلم (16) .). وقد أبان الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه هذه الفضيلة المتينة للصيام فقال في كتاب الصوم باب "الصوم كفارة" واستدل لذلك بحديث آخر غير هذين الحديثين الشهيرين وهو حديث حذيفة بن اليمانِ ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفّرها الصلاة والصيام والصدقة"(البخاري (1895) ، ومسلم (144) .).
رابعاً : إن الصوم حصنٌ حصين من الفواحش والشهوات ، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصيام بديلاً نافعاً ودواءً ناجعاً للشباب عند تعسّر الزواج عليهم وعدم تمكّنهم منه ، ففي الصحيحين وأخرجه البخاري في كتاب الصوم باب "الصوم لمن خاف على نفسه العُزْبَة" ـ بضم العين وسكون الزاي ـ ولبعض رواه الصحيح العزوبة ـ بزيادة واو ـ عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : كُنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : "من استطاع منكم الباءة فليتزوّج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وجاء"(البخاري (1905) ، ومسلم (1400) .) ، قال الحافظ رحمه الله : والمراد بالخوف من العزوبة ما ينشأ عنها من إرادة الوقوع في العنَت ، وقوله "وِجاء" ـ بكسر الواو وبجيم ومد ـ وهو رضّ الخصيتين ، وقيل : رضّ عروقهما ، ومن يفعل ذلك تنقطع شهوته ، ومقتضاه أن الصوم قامع لشهوة النكاح ، واستُشكِل بأن الصوم يزيد في تهييج الحرارة وذلك مما يثير الشهوة ، لكن ذلك إنما يقع في مبدأ الأمر فإذا تمادى عليه واعتاده سكن ذلك. والله أعلم . انتهى(الفتح (4/142) ).
وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي أن أختصي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خصاء أمّتي الصيام والقيام"(المسند تحقيق أحمد شاكر رحمه الله (6612) .).
خامساً: أن الصيام من أفضل العبادات وهو طريق إلى الجنة ، فقد روى أحمد والنسائي وابن حبان وغيرهم بسند صحيح عن أبي أُمامة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم مُرني بعملٍ ينفعني اللهُ به ، وفي لفظ : أدخُل به الجنّة . فقال صلى الله عليه وسلم : "عليك بالصوم فإنه لا مِثل له". قال الراوي : فكان أبو أُمامة لا يُرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف ، فإذا رأوا الدخان نهاراً عرفوا أنه قد اعتراهم ضيف( مسند أحمد (5/255) ، والسنن الكبرى للنسائي (4/165) ، وابن حبان (3425).).
وللصائمين في الجنّة نُزُل كرامةٍ فقد وهبهم ربّهم تعالى [باب الريّان] وخصّهم به دون سائر الناس ، لما كان لهم من محبة الصيام والإكثار منه ، والحديث في الصحيحين ، وسوف يأتي تنويه وتذكير مخصوص بشأنه ، والله الموفق .
سادساً : ثناء الله تعالى ومغفرته للصائمين واستغفار الملائكة
لهم ، ويدل على ذلك ما رواه أحمد عن أبي سعيد الخُدريّ
ـ رضي الله عنه ـ وابن حبّان عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله وملائكته يصلّون على المتسحّرين"(مسند أحمد (3/12) ، وابن حبان (3467) .)والمتسحّرون هم الصائمون في الغالب .
سابعاً : شفاعة الصيام ومحاجّته عن أهله يوم القيامة ، فقد روى أحمد والحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الصيام والقرآن يَشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي ربِّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفّعني فيه ، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفِّعني فيه ، قال فيشفَّعان"(المسند (2/174) ، ومستدرك الحاكم 1/740 (2036) .).
وفي كتاب الله العزيز ثناء عاطر على الصيام وأهله ، كما في قوله تعالى في الآية المتقدِّمة : ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر : 10] وأن المراد الصائمون .
وقال الإمام البغوي ـ رحمه الله ـ في شرح السنة : باب فضل الصيام ، قال الله سبحانه وتعالى : ﴿ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ ﴾ [التوبة : 112] . والسائحون : هم الصائمون ، وسمى الصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبّداً لا يكون له زاد ، فحين يجد يطعم، فالصائم كذلك يمضي نهاره لا يطعم شيئاً . وقيل في قوله تعالى : ﴿ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِوَالصَّلاةِ ﴾ [البقرة : 153] . أي بالصوم ، وسمى شهر رمضان شهر الصبر ، وأصل الصبر الحبس ، ومنه قوله سبحانه وتعالى : ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ﴾ [الكهف : 28] ،ففي الصوم حبس النفس عن المطاعم وبعض اللذّات(شرح السنة للبغوي (6/219) .). اهـ .
[ البقرة : 183 - 184 ] .
أيها الإخوة الفُضَلاء :
--------------
إن الصيام من أجلّ الطاعات وأعظمها وأشرفها ، وسبب ذلك يعود لأمرين :
"أحدهما : أن الصوت تركٌ وكفّ ، وهو في نفسه سرّ ليس فيه عمل يُشاهد ، وجميع أعمال الطاعات بمشهد من الخلق ومرأى ، والصوم لا يراه إلا الله ـ عز وجل ـ فإنه عملٌ في الباطن بالصبر المجرّد .
والثاني : أنه قهرٌ لعدوّ الله تعالى ، فإن وسيلة الشيطان ـ لعنه الله ـ الشهوات ، وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب ، فلما كان الصوم على الخصوص منعاً للشيطان وسداًّ لمسالكه وتضييقاً لمجاريه استحق التخصيص بالنسبة إلى الله عز وجل(الإحياء (1/274) .).
واعلموا أيها الإخوة أن للصيام فوائد عديدة دلّت عليها النصوص النبوية ، أجمع حديثٍ حواها وأحسنه أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ المتفق عليه ، وأخرجه البخاري في كتاب الصيام باب فضل الصوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"الصيام جُنّة، فلا يرفث ولا يجهل ، وإن امرؤٌ قاتله أو شاتمه فليقُل : إني صائم ، والذي نفسي بيده لَخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها".
وفيه أيضاً : "للصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى ربَّه فرح بصومه(البخاري (1894 - 1904) ، ومسلم (1151) .).
وقد أفاد هذا الحديث الشريف عدة فوائد :
1- أن الصيام جُنّة : والمراد جُنّة من النار أي وقاية وستر من النار كما أفادتها بعض زيادات الحديث فعند سعيد بن منصور "جُنّة من النار" ، وعند أحمد في مسنده بسند صحيح عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الصوم جُنّة يستجن بها العبد من النار"(مسند أحمد (3/396) .) ، وعند أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة : "جُنّة وحصن حصين من النار"(مسند أحمد (2/402) .) وعند أحمد والنسائي من حديث أبي عبيدة : "الصيام جُنّة ما لم يخرقها"(مسند أحمد (1/195) ، وسنن النسائي الكبرى (2542 – 2543) .). يعني بالكلام ونحو .
"فالجُنّة هي : ما يَستجِنّ بها العبد ، كالمجّنّ الذي يقيه عند القتال من الضرب ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [ البقرة : 183 ] . فإذا كان له جُنّة من المعاصي ، كان له في الآخرة جُنة من النار ، وإذا لم يكن له جنة في الدنيا من المعاصي ، لم يكن له جنة في الآخرة من النار"(جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (139) .).
2- إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك(الحديث على ظاهره في إثبات استطابة الروائح لله تعالى على وجه يليق بجلاله بلا تشبيه أو تمثيل أو تحريف ، قال الإمام ابن القيم رحمه الله : "ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك فمثّل النبي صلى الله عليه وسلم طيب هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم ، ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه ، فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين ، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوقين من ذلك ، كما أن ذاته ـ سبحانه وتعالى ـ لا تشبه ذوات خلقه ، وصفاته لا تشبه صفاتهم ، وأفعاله لا تشبه أفعالهم ، وهو سبحانه يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه والعمل الصالح فيرفعه ، وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا" [ الوابل الصيّب ص 47 ] .) : وهذه فضيلة سامية للصائمين فالخلوف المراد به تغيّر رائحة الفم بسبب الصيام ، وهذا لا يحبه كثير من الناس ويستقذرونه ومع ذلك فهو أطيب عند الله من ريح المسك الذي أو أزكى الروائح عند الناس.
3- قوله : "الصيام لي وأنا أجزي به" : والمراد أنه لا رياء فيه ، وإنما هو أمر قلبي بين الله تعالى والعبد بخلاف سائر الطاعات ، فالصائم لا تبدو عليه أمارات جازمة تحدّد صومه أو فطره ، ولهذا قد يكذب بعض ضعاف الإيمان ويدّ‘ون الصيامَ وهم مُفطرِون ، خشيةً وحياءً من الناس ولا يخشون الله تعالى وعقابه، وقد روى البيهقي في شُعب الإيمان حديثاً عن أبي هريرة مرفوعاً: "الصيام لا رياءَ فيه ، قال الله عز وجل : هو لي وأنا أجزي به"(شُعب الإيمان 3/300 (3593) .)، وهذا الحديث لو صح لكان قاطعاً للنزاع ، لكن إسناده ضعيف ، لأنه قد نُقل في معنى هذه الجملة نحو عشرة أقوال .
وقد يُراد بمعناه : أنّي أنفردُ بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، ويشهد لهذا رواية : "كل عمل ابن آدم يُضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله ـ قال الله ـ إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" أي أُجازي عليه جزاءً كثيراً من غير تعيين لمقداره ويؤيده قوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر : 10] ، والصابرون هم الصائمون في أكثر الأقوال(فتح الباري (4/130) .).
4- قوله : "للصائم فرحتان" : فالصيام مع وجود الجوع والعطش فيه ، عاقبته الفرح والسرور ، فرح في الدنيا وفرحٌ في الآخرة ، والأخير أجلّ وأعظم ، لأنه علامة الفوز والقبول والنجاح ، ويوم القيامة يوم فرح وحزن ، فيه يفرح المؤمنون ويحزن الكافرون ، وجوهٌ مُسفرة ووجوهٌ عليها غَبرةٌ .
ثالثاً : إن الصيام كفّارة للذنوب والخطايا ، ففي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مَن صامَ رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّمَ مِن ذنبه"(البخاري (1901) ، ومسلم (759) ). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهنَّ ما اجتُنِبَت الكبائر"(مسلم (16) .). وقد أبان الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه هذه الفضيلة المتينة للصيام فقال في كتاب الصوم باب "الصوم كفارة" واستدل لذلك بحديث آخر غير هذين الحديثين الشهيرين وهو حديث حذيفة بن اليمانِ ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفّرها الصلاة والصيام والصدقة"(البخاري (1895) ، ومسلم (144) .).
رابعاً : إن الصوم حصنٌ حصين من الفواحش والشهوات ، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصيام بديلاً نافعاً ودواءً ناجعاً للشباب عند تعسّر الزواج عليهم وعدم تمكّنهم منه ، ففي الصحيحين وأخرجه البخاري في كتاب الصوم باب "الصوم لمن خاف على نفسه العُزْبَة" ـ بضم العين وسكون الزاي ـ ولبعض رواه الصحيح العزوبة ـ بزيادة واو ـ عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : كُنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : "من استطاع منكم الباءة فليتزوّج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وجاء"(البخاري (1905) ، ومسلم (1400) .) ، قال الحافظ رحمه الله : والمراد بالخوف من العزوبة ما ينشأ عنها من إرادة الوقوع في العنَت ، وقوله "وِجاء" ـ بكسر الواو وبجيم ومد ـ وهو رضّ الخصيتين ، وقيل : رضّ عروقهما ، ومن يفعل ذلك تنقطع شهوته ، ومقتضاه أن الصوم قامع لشهوة النكاح ، واستُشكِل بأن الصوم يزيد في تهييج الحرارة وذلك مما يثير الشهوة ، لكن ذلك إنما يقع في مبدأ الأمر فإذا تمادى عليه واعتاده سكن ذلك. والله أعلم . انتهى(الفتح (4/142) ).
وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي أن أختصي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خصاء أمّتي الصيام والقيام"(المسند تحقيق أحمد شاكر رحمه الله (6612) .).
خامساً: أن الصيام من أفضل العبادات وهو طريق إلى الجنة ، فقد روى أحمد والنسائي وابن حبان وغيرهم بسند صحيح عن أبي أُمامة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم مُرني بعملٍ ينفعني اللهُ به ، وفي لفظ : أدخُل به الجنّة . فقال صلى الله عليه وسلم : "عليك بالصوم فإنه لا مِثل له". قال الراوي : فكان أبو أُمامة لا يُرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف ، فإذا رأوا الدخان نهاراً عرفوا أنه قد اعتراهم ضيف( مسند أحمد (5/255) ، والسنن الكبرى للنسائي (4/165) ، وابن حبان (3425).).
وللصائمين في الجنّة نُزُل كرامةٍ فقد وهبهم ربّهم تعالى [باب الريّان] وخصّهم به دون سائر الناس ، لما كان لهم من محبة الصيام والإكثار منه ، والحديث في الصحيحين ، وسوف يأتي تنويه وتذكير مخصوص بشأنه ، والله الموفق .
سادساً : ثناء الله تعالى ومغفرته للصائمين واستغفار الملائكة
لهم ، ويدل على ذلك ما رواه أحمد عن أبي سعيد الخُدريّ
ـ رضي الله عنه ـ وابن حبّان عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله وملائكته يصلّون على المتسحّرين"(مسند أحمد (3/12) ، وابن حبان (3467) .)والمتسحّرون هم الصائمون في الغالب .
سابعاً : شفاعة الصيام ومحاجّته عن أهله يوم القيامة ، فقد روى أحمد والحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الصيام والقرآن يَشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي ربِّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفّعني فيه ، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفِّعني فيه ، قال فيشفَّعان"(المسند (2/174) ، ومستدرك الحاكم 1/740 (2036) .).
وفي كتاب الله العزيز ثناء عاطر على الصيام وأهله ، كما في قوله تعالى في الآية المتقدِّمة : ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر : 10] وأن المراد الصائمون .
وقال الإمام البغوي ـ رحمه الله ـ في شرح السنة : باب فضل الصيام ، قال الله سبحانه وتعالى : ﴿ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ ﴾ [التوبة : 112] . والسائحون : هم الصائمون ، وسمى الصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبّداً لا يكون له زاد ، فحين يجد يطعم، فالصائم كذلك يمضي نهاره لا يطعم شيئاً . وقيل في قوله تعالى : ﴿ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِوَالصَّلاةِ ﴾ [البقرة : 153] . أي بالصوم ، وسمى شهر رمضان شهر الصبر ، وأصل الصبر الحبس ، ومنه قوله سبحانه وتعالى : ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ﴾ [الكهف : 28] ،ففي الصوم حبس النفس عن المطاعم وبعض اللذّات(شرح السنة للبغوي (6/219) .). اهـ .